الدعاء لغير المسلمين- رحمة ومغفرة أم تحريم وإجماع؟

المؤلف: د. معتز الخطيب08.12.2025
الدعاء لغير المسلمين- رحمة ومغفرة أم تحريم وإجماع؟

في عام 2005، رحل عن عالمنا بابا الكنيسة الكاثوليكية، يوحنا بولص الثاني، وقد تفضل الشيخ العلامة يوسف القرضاوي، رحمه الله، بالدعاء له بالرحمة والمغفرة، قائلاً: "نتضرع إلى المولى عز وجل أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجزيه خير الجزاء بقدر ما قدم من إحسان للإنسانية جمعاء، وما تركه من إرث طيب وعمل مبارك". إلا أن هذا الدعاء النبيل قد أثار حفيظة واستياء بعض شيوخ التيار السلفي، إضافة إلى جموع من الناس، موجهين انتقادات لاذعة للشيخ القرضاوي، ولا تزال هذه القضية محط جدل واسع في حالات مماثلة، عندما يرفع البعض أكف الضراعة للمتوفين من غير المسلمين.

إن الإجماع المزعوم، والذي أشار إليه الألباني، يعود في جذوره إلى القاضي الفقيه عياض اليحصبي المالكي (المتوفى سنة 544 هـ)، والذي نقل عنه الإمام النووي قوله: "لقد أجمع العلماء قاطبة على أن الكفار لا ينتفعون بأعمالهم الصالحة، ولا يثابون عليها بنعيم مقيم أو تخفيف من العذاب الأليم، ولكن بعضهم أشد عذابًا من بعض، وذلك تبعًا لشناعة جرائمهم"، وهذا يعني أن الدعاء للكافر ليس فحسب أمرًا محرمًا، بل هو أيضًا ضرب من العبث لا طائل منه، إذ لا يجدي نفعًا بعد موتهم على الكفر.

تجدر الإشارة إلى أن الشيخ الجليل ناصر الدين الألباني، غفر الله له، قد أورد عن الإمام محيي الدين النووي (المتوفى سنة 676 هـ) إجماعًا على حرمة الدعاء بالمغفرة للكافر، ثم عقب قائلاً: "ومن هنا يتضح خطأ بعض المسلمين في عصرنا الحالي في الترحم والترضي على بعض الكفار، وهو أمر شائع بين أصحاب الجرائد والمجلات… ولا غرابة في ذلك، فقد يخفى عليهم مثل هذا الحكم الشرعي، ولكن العجب كل العجب يكمن في بعض الدعاة الإسلاميين الذين يقعون في مثل هذا الزلل". ويبدو أن أغلبية رواد مواقع التواصل الاجتماعي اليوم يتبنون موقف الشيخ الألباني هذا، ففي كل حين تشتد حملات النقد والإنكار على من يترحمون على من وافته المنية وهو على غير دين الإسلام الحق.

وعليه، فإن مسألة الدعاء للكافر بالرحمة والمغفرة تستدعي نقاشًا مستفيضًا وعميقًا، نسترجع فيه المناقشات الفقهية الأصيلة التي سبقت نزعات التشدد والخطابات الدعوية التي تميل إلى القطيعة مع افتقار إلى الزاد الفقهي الرصين، وهو ما سأسعى إلى تحقيقه في هذه المقالة.

يتصل موضوع الدعاء للكافر بمسألة أخرى ذات أهمية بالغة، ألا وهي الموقف من الأعمال الصالحة التي قد يقوم بها الكافر في حياته، وهل تُعتبر هذه الأعمال ذات قيمة، أم أنها تذهب سدى وتبوء بالفشل بسبب كفره؟ وهل يثاب عليها في الآخرة، أم أنها تقتصر على تخفيف العذاب عنه فحسب؟ وهي قضايا كلامية تستحق البحث والتدقيق لفهم تصورات علماء الكلام المسلمين، بعيدًا عن التصورات الشعبية السائدة اليوم، والتي تنشر جوًا عامًا متسمًا بعدم التسامح، بل لا يراعي أحيانًا الحد الأدنى من اللياقة في التعامل مع موتى غير المسلمين.

ومرة أخرى، فإن دعوى الإجماع المشار إليها في كلام العلامة الألباني تعود إلى القاضي عياض اليحصبي المالكي (المتوفى سنة 544 هـ)، والذي نقل عنه الإمام النووي قوله: "لقد وقع الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم الطيبة، ولا يثابون عليها بالنعيم المقيم ولا بتخفيف العذاب، ولكن بعضهم أشد عذابًا من بعض، وذلك بحسب عظم جرائمهم"، أي أن الدعاء للكفار ليس حرامًا فحسب، بل هو أيضًا غير مجدٍ على الإطلاق، ولا فائدة منه بعد موتهم على الكفر.

وقد تفحص الإمام النووي الشافعي هذه القضية بتعمق في كتابين من مؤلفاته، ففي كتابه الفقهي صرح قائلاً: "أما الصلاة على الكافر والدعاء والاستغفار له، فهو أمر محرم بنص القرآن الكريم وإجماع الأمة"، وفي كتابه "الأذكار" قال: "يحرم قطعًا أن يُدعى بالمغفرة وما شابهها لمن مات كافرًا… وقد ورد الحديث النبوي الشريف بمعناه، والمسلمون قاطبة مجمعون عليه". وأضاف أيضًا: "اعلم يقينًا أنه لا يجوز الدعاء له بالمغفرة وما يماثلها مما لا يقال للكفار، ولكن يجوز الدعاء له بالهداية وصحة الجسد والعافية وما شابه ذلك".

والسؤال الذي ينبغي على الباحث المدقق أن يطرحه هو: من أين أتى هذا الإجماع المزعوم؟ وهل هذه المسألة متفق عليها بالفعل كما ادعى القاضي عياض، وتبعه في ذلك الإمام النووي الذي يكثر النقل عنه في شرحه لصحيح مسلم؟ الحقيقة أن الإمام النووي نفسه يناقض هذا الإجماع بصورة غير صريحة، حين ينقل مباشرة بعد كلام القاضي عياض عن الإمام البيهقي الشافعي (المتوفى سنة 458 هـ) أن القول بأن أعمال الكافر الصالحة لا تنفعه في الآخرة هو مجرد قول "بعض أهل العلم والنظر"، أي أنه لا يعدو كونه رأيًا فرديًا وليس إجماعًا، بل إن النووي ينقل عن البيهقي أيضًا أن الآيات والأحاديث التي تتحدث عن بطلان عمل الكافر الخيِّر إذا مات على الكفر، يمكن أن تفسر على أنها تعني إخراجه من النار وإدخاله الجنة، وهذا يعني أن هذه الأعمال الصالحة التي قام بها الكافر قد تساعده في التخفيف من العذاب الذي استوجبه نتيجة للذنوب التي ارتكبها، عدا الكفر.

ولا يقتصر هذا الرأي على الإمام البيهقي وحده، بل هو رأي العديد من العلماء الأفاضل من مختلف المذاهب الفقهية، وهو رأي قوي ووجدته منتشرًا في المصادر المتعددة بعد البحث والتدقيق، حتى إن الفقيه المالكي الكبير ابن الفرس الأندلسي (المتوفى سنة 597 هـ)، وهو معاصر للقاضي عياض، اكتفى بذكر وجود قولين في المسألة ولم يرجح بينهما. ونجد ذكر هذين القولين أو الخلاف بينهما في كتب شروح الحديث والفقه والتفسير، وفي أزمنة مختلفة، مما يدل على أنه خلاف معتبر وقوي، وإن كان القول بأن العمل الصالح من الكافر ينفعه هو القول الأرجح، حتى إن الفقيه الحنفي أحمد الكوراني (المتوفى سنة 893 هـ) اكتفى بذكره وحده وجزم به، وقد رجح هذا الرأي جمع غفير من العلماء الذين نقضوا دعوى الإجماع التي أطلقها القاضي عياض، وأكدوا أنها غير صحيحة، وللقاضي عياض مثل هذه الإطلاقات التي تحتاج إلى تروٍّ وتدقيق، وكثيرًا ما ينقل عنه الإمام النووي. وممن رجحوا أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الآخرة، نجد الفقيه الحنفي والمحدث محمد أنور شاه الكشميري (المتوفى سنة 1353 هـ)، والعلامة شهاب الدين الخفاجي (المتوفى سنة 1069 هـ)، والعلامة شهاب الدين الآلوسي (المتوفى سنة 1270 هـ)، وغيرهم.

والحديث في موضوع انتفاع الكافر بعمله الصالح في الآخرة يطول، وقد أفرد له مقالًا خاصًا، لأن الغرض الأساسي في هذه المقالة هو إيضاح جواز الدعاء للكافر بالمغفرة والرحمة، أو بأي أمر أخروي لا دنيوي فحسب، سواء في حياته أو بعد مماته، ولكن مع الحرص على ألا يتناول ذلك ذنب الكفر أو الشرك الأكبر، وهذا مذهب فقهي معتبر، بل هو مذهب الشافعية، على عكس ما قد يفهم من كلام الإمام النووي السابق، وعلى خلاف إجماع عياض الذي لم يسبقه إليه أحد، حسب علمي.

وإذا أردنا التحدث عن الشافعية لتوضيح محل كلام الإمام النووي الشافعي، فإننا نجد أن كلامه قد أشكل على أئمة الشافعية اللاحقين، ويمكنني هنا أن أميز بين موقفين اثنين:

الموقف الأول: فهم من كلام النووي الإطلاق، وأنه يحرم بشكل قاطع الدعاء بالمغفرة والرحمة للكافر، سواء كان ذنب الشرك أو غيره، ومن ثم انشغل بعض شيوخ المذهب ببيان أن المذهب يجوز الدعاء للكافر بالمغفرة، خلافًا لكلام النووي. وقد سلك هذا المسلك عدد من شيوخ المذهب، كما سيتضح لاحقًا.

الموقف الثاني: حمل كلام النووي على أنه يقصد حرمة الدعاء للكافر بمغفرة شركه أو كفره، أي إدخاله الجنة ونيل رضوان الله تعالى، ويمثل هذا الموقف العلامة ابن علان الشافعي، الذي فسر كلام النووي بأن المراد به "الرحمة أو دخول الجنة أو رضوان الله تعالى"، أي الاستغفار الذي يخرج من النار ويدخل إلى الجنة.

وبعيدًا عن دعوى الإجماع التي ساقها عياض، إذا رجعنا إلى كلام النووي في كتابيه، نجد أن ظاهره يدل على أنه كان يقصد الشرك الأكبر فقط، لا ما هو دونه، ويشهد على ذلك ثلاث قرائن:

القرينة الأولى: أن النووي قد قرن بين الصلاة على الكافر والدعاء له، ثم إنه بعد أن قرر تحريم الدعاء له بالمغفرة، أقر أيضًا بأن المذهب يجيز للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر، وأن زيارة قبر الكافر جائزة.

القرينة الثانية: أن النووي نفسه قد نقض إجماع القاضي عياض حين نقل عن الإمام البيهقي الشافعي أن عمل الكافر الصالح قد ينفعه في الآخرة، وإن لم يدخله الجنة.

القرينة الثالثة: استدلال النووي في هذا السياق بالآية الكريمة: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ" [التوبة: 113]، وهي تشير بوضوح إلى الشرك، وأنه لا يخرج أصحابه من الجحيم، ومن هنا أوضح ابن علان الشافعي أن في الآية دليلًا على جواز الاستغفار للمشركين الأحياء، لأنه "طلب توفيقهم إلى الإيمان".

بالإضافة إلى القرائن السابقة، لا بد من التأكيد على أن المغفرة إذا أطلقت، فإنها تنصرف إلى الشرك الأكبر، فالدعاء بالمغفرة ينصرف معناه إلى ألا تمس النار المدعو له، وهو حقيقة الدعاء للموحدين، وخاصة حين يقترن الدعاء للميت بالصلاة عليه، لأن المراد من الصلاة عليه هو الدعاء له بالمغفرة التي تدخله الجنة. فالإشكال في كلام النووي يكمن في عدم تحرير محل النزاع، فكلامه يحتمل تفسيرين:

التفسير الأول: أن يقصد الدعاء بمغفرة الشرك الأكبر، وتحريم هذا الدعاء محل إجماع بين الفقهاء، لأنه خلاف النص القرآني الصريح، وهو ظاهر كلام النووي حين قال: "بنص القرآن والإجماع"، فالذي ثبت بالنص الصريح هو "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ"، وهو المعنى الذي أجمع عليه العلماء.

التفسير الثاني: أن النووي يقصد تحريم مطلق الدعاء بالمغفرة، بما يشمل الشرك الأكبر وغيره من الذنوب، فإن كان هذا هو مراده، فالرأي الراجح في مذهبه الشافعي يخالف هذا، وقد توارد على بيان هذا الرأي الراجح عدد من مشايخ المذهب.

وإذا رجعنا إلى كتب المذهب، نجد بعض أئمة الشافعية ينصون صراحة على أنه يجوز الدعاء للكافر بأمر أخروي وبالمغفرة والرحمة، خلافًا لما قد يفهم من كلام النووي من إطلاق القول بالتحريم، كما نجد على سبيل المثال لدى الخطيب الشربيني (المتوفى سنة 977 هـ)، وأحمد سلامة القليوبي (المتوفى سنة 1069 هـ)، وإبراهيم البرماوي (المتوفى سنة 1106 هـ)، وسليمان البجيرمي (المتوفى سنة 1221 هـ).

وربما اختلط هذا النص الصريح بنصوص أخرى في بعض كتب الشافعية يرد فيها إطلاق القول بحرمة الدعاء للكافر بالمغفرة، كما نجد عند الخطيب الشربيني وشهاب الدين الرملي على سبيل المثال، فقد عللا حرمة الصلاة على الكافر بأنه لا يجوز الدعاء له بالمغفرة، لقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" [النساء: 48]. ولكن إطلاق التحريم في هذه النصوص إنما يرد مقرونًا بحرمة الصلاة على الكافر صلاة الجنازة، وفي بعض النصوص يرد التعبير بأن "قضية كلامهم في الجنائز حرمة الدعاء للكافر بالمغفرة"، إلى جانب النص على جواز الدعاء للكافر بالمغفرة، وهو يدل على أن مرادهم في تحريم الصلاة عليه مع الدعاء له هو مغفرة ذنب الشرك الأكبر الذي يشعر به هذا الاقتران بين الصلاة عليه والدعاء له، خاصة أن حواشي كتب المذهب الشافعي تحكي أن ثمة خلافًا بين الفقهاء في "استحباب الدعاء للكافر"، وإن كان الرأي الراجح هو جواز الدعاء. نجد ذلك لدى نور الدين بن علي الشبراملسي (المتوفى سنة 1087 هـ) وسليمان بن منصور الجمل (المتوفى سنة 1204 هـ) وعبد الحميد الشرواني (المتوفى سنة 1301 هـ) على سبيل المثال.

بل إن الشبراملسي قد عقب على الكلام المطلق السابق الوارد عن الشربيني والرملي بأن آية "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" أخص من دعوى تحريم مطلق الدعاء للكافر، لأن الآية إنما تدل على معنى محدد هو عدم مغفرة الشرك الأكبر، وربما تدل على مغفرة ما دون الشرك، لعموم قوله تعالى: "وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ" [النساء: 48]. وهذا يدل على جواز الدعاء للكافر بمغفرة غير الشرك، لأن ذنب الإشراك لا يغفر، فلا يجوز الدعاء له به، في حين يجوز الدعاء للكافر بمغفرة ما عدا الشرك وبالرحمة وبصحة البدن وكثرة المال والولد وبالهداية، بل "ويجوز التأمين على دعاء الكافر ويجوز طلب الدعاء منه أيضًا"، كما أوضح القليوبي وغيره من العلماء.

وفي بعض كتب الشافعية يرد تقييد جواز الدعاء للكافر الحي بقيد "إن أسلم"، أو بنية أن يحصل للكافر سبب المغفرة وهو الإسلام، وهو ما دفعني سابقًا في تعليق على الفيسبوك إلى توهم التمييز في الدعاء للكافر بين حالتي الحياة والممات، ولكن اتضح لي بعد ذلك أن مدار الأمر كله إنما هو على التمييز بين الشرك الأكبر وغيره، وفي هذه الحالة فإن الدعاء محمول على طلب مغفرة الشرك في الدنيا إن أسلم، بناء على "إيمان الموافاة" الذي يقول به كثير من الأشاعرة، ومعناه أن العبرة في السعادة والشقاوة هي الحالة التي يموت عليها الشخص بغض النظر عن عمله السابق على هذه الحالة، فقد يرتد المسلم قبل موته وقد يؤمن الكافر عند موته، فالدعاء له بعموم المغفرة يترك مجالًا لهذا الاعتبار بأن يوفقه الله للهداية قبل موته فيموت على الإسلام.

ولكن ماذا لو دعا المسلم للكافر بمغفرة ذنب الشرك في الآخرة، هل يعتبر ذلك كفرًا؟ انتقد بعض مشايخ الشافعية اعتبار ذلك كفرًا، كما فعل الشبراملسي والجمل والشرواني، ورأوا أن صاحبه قد ارتكب محرمًا فقط.

وخلاصة القول، أن الدعاء للكافر بالمغفرة يشتمل على معنيين:

الأول: أن يقصد بدعائه له مغفرة الشرك الأكبر، وهذا محرم بالإجماع، لأن الشرك الأكبر لا يغفر بنص القرآن الكريم.

الثاني: أن يقصد مغفرة ما دون الكفر، والأصل في الأعمال التي هي دون الشرك أنها متروكة للمشيئة الإلهية بنص القرآن (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فدعاء المسلم للكافر إنما هو دعاء من أجل تحقيق المشيئة الإلهية بالمغفرة للكافر ما دون الشرك، ولم يستبعد الآلوسي هذا المعنى، في حين أن غيره أثبته صراحة كما نجد لدى عدد من العلماء. وقد أوضح شهاب الدين الخفاجي والآلوسي وغيرهما أن العذاب الذي لا يخفف هو عذاب الكفر بحسب مراتبه، أما العذاب الذي دلت الأحاديث النبوية على تخفيفه فهو ما عدا الكفر. ومعنى إحباط أعمال الكفار التي ورد النص القرآني بها هو أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد في النار، وهو معنى كونها سرابًا وهباء، وسأزيد هذا الأمر تفصيلًا في مقالي الذي سأخصصه لمنفعة العمل الصالح من الكافر في الآخرة بإذن الله.

ويرجع أصل هذا النقاش إلى مقدمات رئيسية، هي:

  1. ثبوت تفاوت الكفار في الآخرة، وأنهم ليسوا على درجة واحدة، وأن النار دركات كما أن الجنة درجات، بل إن أنور شاه الكشميري قد نقل الإجماع على أن الكافر العادل أحسن حالًا من الكافر الظالم في الآخرة.
  2. أن الشرك الأكبر لا يغفر بنص صريح من القرآن الكريم، وهو مسألة مجمع عليها بين العلماء.
  3. بقي النقاش في هل يجوز أن ندعو للكافر بمغفرة ما عدا الشرك الأكبر؟ وهو ما حررناه هنا وأن هذا جائز، ولكن الكافر الذي ندعو له هنا إما أن يكون قد عمل عملًا صالحًا وإما عملًا سيئًا. فالدعاء لمن عمل صالحًا يكون بأن يقبله الله تعالى منه لا بالمغفرة، لأن المغفرة إنما تكون للعمل السيئ، كما أن عدل الله تعالى يقتضي أن يكافئ الكافر على عمله الصالح إما في الدنيا بإكرامه، وإما في الآخرة بتخفيف العذاب عنه، ومعنى ذلك أن دعائي للكافر بخصوص عمله الصالح غير مؤثر في الواقع، والذي يؤثر هو دعائي للكافر بالتجاوز عن عمله السيئ فيما دون الشرك، وفي أحاديث تخفيف العذاب عن أبي طالب وأبي لهب وغيرهما شواهد على هذا، وإن كان أبو طالب وأبو لهب ليسا سواءً أيضًا في الآخرة.
  4. الكفر لا يعني بالضرورة أن كل عمل يصدر من الكافر غير معتبر بسبب كفره، فمن الممكن أن نميز بين الأعمال كما سنفصل في مقال لاحق بمشيئة الله.

تلقي هذه الآراء المتباينة ضوءًا ساطعًا على سعة ومرونة النقاشات الفقهية الكلاسيكية، والتي تجمع بين مسائل تأويلية نصية وأخرى أخلاقية وإنسانية، فحتى أولئك الذين أطلقوا القول بحرمة الدعاء للكافر قد تحدثوا عن جواز المشي في جنازته، بل وزيارة قبره إن كان قريبًا، وتكفينه إن كان من أهل الذمة رعاية لذمته، ولكن النقاشات الشعبية الحالية تغيب عنها رعاية البعد الإنساني، ويغلب عليها اتخاذ مواقف متوترة، فضلًا عن أنها لا تعكس الموروث الفقهي نفسه، والله المستعان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة